القائمة الرئيسية

الصفحات

ما من واقعة إلا ولها حُكْم! _ الحلقة الثالثة

 



ما من واقعة إلا ولها حكم

الحلقة الثالثة

نستمر في هذه الحلقة بمناقشة الأدلة التي استندوا إليها لتأسيس قاعدة (ما من واقعة إلا ولها حكم). وقد تقدم الكلام في مناقشة الدليل العقلي، وبينَّا أن العقل غير دالّ على شيء من ذلك. ونبين هنا أصل الأخلاق، أو ما يصطلح عليه بالخير والشر، ومصدر ذلك في أخلاق الإنسان. بعد أن نحمل فكرة مختصرة عن الأخلاق لدى باقي الكائنات الحية. وصولاً إلى مناقشة قاعدة اللطف.

الأُسود



أنا وغيري ربما، كنا ننظر إلى الأسد نظرة هيبة واحترام، على أنه ملك الغابة، وله المكانة والكاريزما المعروفة. مما يفرض على الحيوانات وكذلك على البشر بأن ينظروا له بتميز؟

وبقي هذا الشعور عندي إلى أن تعرفت على بعض مزاياه، والتي جعلتني لا أميل له، ولا أحترمه كثيراً. وذلك عندما عرفت مثلاً بأنه عندما يصل إلى مرحلة الشباب والعنفوان، ويأخذ طريقه بالانفصال عن العائلة التي كان ينتمي إليها، ليشق طريقه بتكوين عائلة جديدة. فإنه يذهب إلى عائلة أخرى ليدخل في صراع مع الأسد المسيطر على تلك العائلة. ويبدأ النزال بينهما. فإذا انتصر على خصمه وأجبره على الانسحاب، فإنه يعمد أولاً إلى قتل الأشبال الذين لا ينتمون له ولنسله! لأنه لا يستطيع التزاوج مع لبوات تلك العائلة حتى يقوم بذلك أولاً. وإذا فرض هيمنته وقضى على تلك الأشبال، دخلت اللبوات تحت سيطرته وقبلن به!

وبالطرف الأخر لماذا انسحب الذكر المسيطر السابق؟ كما هو الحاصل غالباً. الجواب ببساطة هو أنه إذا وصل إلى درجة من الجراح بحيث تجعله لا يستطيع العيش والسيطرة فيما بعد، فإنه يضحي بعائلته وأشباله، ويفضل حياته، ولذلك فإنه يقرر الانسحاب!

كذلك فإن مهمة الصيد بشكل رئيسي تقوم بها اللبوات، ولا يتدخل هو إلا في الحالات التي يحتجن فيها إلى تدخله للتمكن من الفريسة. وعلى كل حال فإن عملية الصيد إذا تمت. فلن تتمكن العائلة من الأكل حتى يبدأ هو أولاً، فإذا شبع انسحب لتتمكن عائلته بعد ذلك من الأكل.

لهذه الأسباب التي لا أعتبرها من زاوية نظري تمثل الشهامة أو الرحمة أو الشجاعة، صار لدي الشعور بعدم احترامه. ولكن شعوري هذا لا يقدم ولا يؤخر بالنسبة لمملكة الأسود. والإستراتيجيات التي يلتزم بها، جعلت منه نوعاً صالحاً للبقاء ولم ينقرض. وهنا جوهر الموضوع.

الضباع



للضباع مثلاً طرق أخرى في سلوكها، وهي فيما يتعلق بالاصطياد لها منهج آخر في التعامل مع الفريسة. فإذا كانت الأسود تحكم أنيابها على القصبة الهوائية للفريسة حتى تفارق الحياة، ومن ثم تبدأ بأكلها. لتكون بذلك أكثر رحمة من زاوية نظرنا من الضباع. فإننا نجد الضباع تبدأ بأكل فريستها قبل أن تموت، وتنهش لحمها وتستمتع بأكلها، والفريسة تصرخ من الألم. مما يجعلنا نحقد على الضباع في هذه النقطة أكثر من حقدنا على الأسود!

وعند الاطلاع على سلوكيات باقي الأنواع من الحيوانات والحشرات لرأينا العجائب. ولوجدنا في الكثير منها أساليب نمقتها ولا نتقبلها. ولكنها مُرضية بالنسبة لها، وساعدتها على عدم الانقراض.

هل توجد قوة غيبية لغرز هذه الطرق والأساليب لدى هذه الحيوانات؟ أم أنها سلوكيات تطورت معها وانتقلت إليها جينياً بعد ذلك؟

وبتعبير آخر هل أن الأخلاق لدينا ولدى سائر الكائنات الحية جاءت إلينا من قوة غيبية وهي أخلاق مطلقة؟ أم أنها تطورت معنا بالتدريج وبحسب الحاجة للبقاء، وهي نسبية قابلة للتغير بحسب الظروف وضغط التكيف البيئي؟

لقد ذكرت مثالين فيما يتعلق بالأسود والضباع، وأود هنا أن أذكر نموذجين آخرين لنتعرف على طرق مختلفة لسلوك حيوانات أخرى.

طائر الوقواق



لا أعرف هل سمعتم بطائر الوقواق، أو الطائر الخبيث كما يحلو للبعض أن يسميه. وسبب تسميته بالخبيث هو أنه من الطيور التي لا تعتني بصغارها. وإنما تراقب بعض الأعشاش، فإذا خرجت صاحبة العش بمهمة ما تاركة بيوضها في العش. جاءت أنثى طائر الوقواق ووضعت بيضتها في ذلك العش. فإذا رجعت صاحبة العش فإنها ترقد على البيوض بما فيها البيضة الأجنبية، والمسكينة لا تعلم. وتمتاز هذه البيضة المتطفلة بسرعة انفقاسها، وإذا خرج المولود وأصبحت له قدرة ما. فإنه يعمد إلى دفع باقي البيوض أو غيره ممن سبقه بالولادة إلى خارج العش لتسقط وتموت، ويستفرد هو بالعش ورعاية صاحبة العش، وتقوم بإطعامه. واللافت أنه يكون أكبر حجماً من صاحبة العش، ومع ذلك فهي لا تعلم بأن هذا ليس ابنها! وينمو بهذه الطريقة الخبيثة المقززة من زاوية نظرنا. ولكن هذا النوع من الطيور لا يكترث لزاوية نظرنا ولا يعبأ بها أصلاً. ويجد ذلك استراتيجية ساعدته وأعطته الصلاحية على البقاء.

لا تعتقدوا أنني أبتعد عن جوهر الموضوع بهذه الأمثلة والنماذج من المملكة الحيوانية. لأننا ننتمي إلى نفس شجرة الحياة. وذهبنا بأخلاقنا كما فعل غيرنا لابتكار وسائل مختلفة ومتنوعة من أجل البقاء.

لنذكر الآن النموذج الأخير ومن ثم نبدأ بالتحليل ولملمة جوانب الفكرة، لنخرج بنتيجة ترتبط بأصل موضوعنا.

دبور النمس



وهذا النموذج هو ما يسمى بدبابير النمس وطريقة عيشه ونموه. حيث كانت هذه الحشرة تضع بيوضها بتطفل داخل حشرات اليسروع. ومن ثم تتغذى يرقات النمس على مضيفها وتأكلها من الداخل إلى الخارج وهي على قيد الحياة. لأنها تستفيد منها وهي حية أكثر مما أن تكون ميتة!

الكثير من هذه الأمثلة من زاوية نظرنا نجدها غير عادلة، وتحمل الكثير من الظلم، وهي شر عظيم وفقاً لقيمنا الأخلاقية. فإن كانت أخلاقنا من جهة غيبية، فبماذا نفسر سلوكيات هذه الكائنات الحية الأخرى، والتي لا تتناسب مع منظومتنا الأخلاقية؟! فهل هي مغروزة لدى تلك الكائنات من نفس تلك الجهة الغيبية؟! أم أن للأمر تفسيراً طبيعياً آخر لا علاقة له بالغيب؟

لا علاقة للأخلاق بشكل عام بالأديان، أو تدخل غيبي مباشر في تكوينها وتنظيمها. لأننا ببساطة على سبيل المثال نرى ما يسمى بسباق التسلح فيما بين الأنواع المختلفة. فالغزالة تطورت لديها إمكانياتها من أجل التخلص من الفهد المفترس مثلاً، عن طريق جسم وأرجل وسرعة بالشكل الذي يساعدها في ذلك. وفي نفس الوقت تطورت لدى الفهد سرعة وطريقة معينة في الجري، تمكنه من اصطياد فريسته لكي يساعده ذلك على البقاء. وفي الوقت الذي يطارد الفهد الغزال، ويكون الفارق من أجل انتصار أحدهما يتوقف على لحظة أو حركة. مع من تقف تلك الجهة الغيبية؟ وهي بحسب الفرض أعطت لكل منهما ما يساعده على البقاء.

والجواب أن الأمر لا علاقة له بجهة غيبية، وإنما هو صراع من أجل البقاء، ويتكفل الانتقاء الطبيعي ترجيح الطفرات التي تساعد صاحبها وتعطيه الصلاحية على البقاء. وإن فشل النوع في ذلك فإن مصيره إلى الانقراض كما هو شأن الكثير من الأنواع التي انقرضت.

أصل الأخلاق

كل هذه المجموعات من الأنواع الحيوانية، بما فيها الإنسان، تميل للعيش في مجموعة أو عائلة، أو قطيع. فإن كانت سلوكيات الأنانية مثلاً هي السائدة، فإن ذلك لا يساعد على البقاء. وإن كان التعاون والإيثار من أجل الجماعة هو السائد، فإن ذلك يساعد على أمرين مهمين:

أحدهما: القدرة على التكاثر، لأن من يمتلك سلوك التعاون والإيثار مثلاً يكون مقبولاً أكثر من قبل العوائل والأفراد من ذلك النوع. وبذلك تكون له القدرة على امتداد جيناته إلى أجيال أخرى، فيحافظ بذلك على بقاء هذا النوع.

ثانيهما: الشعور بالسعادة والاستقرار مع وجود القبيلة الأقرب له، أو العائلة الأقرب في أي نوع من الحيوانات. لأن هذا التماسك الأسري بالمقدار الذي يكون متقارباً، فإنه يصمد أكثر أمام الاعتداءات التي يتعرضون لها. والتي إذا استمرت فإنها تقضي عليهم وتسبب زوالهم وانقراضهم.

كل ما يتعلق بالتكاثر والتماسك، من السلوكيات، فإنها أخلاق يرجحها التطور، لأنها تعطي الصلاحية على البقاء أكثر. ومن هنا تختلف المصاديق لتلك الأخلاق، وقد تختلف وتتعارض من نوع إلى آخر. وقد نجدها عند نوع مقبولة، وفي نفس الوقت يستهجن نفس ذلك النوع نمطاً آخر يراه عند نوع آخر. ولكنه يحقق للنوع الآخر هذا الاستمرار وفقاً للمعادلة السابقة.

أصل الأخلاق هو ذلك لدى أسلافنا، وأقربائنا في شجرة الحياة. وفقاً للعلم ونظرية التطور التي أعتقد بصحتها. ومن ثم انتقلت إلينا الجينات التي حافظت على استمرار نوعنا البشري. وطورناها بشكل أكثر تعقيداً بعد تطور العقل والإدراك لدينا. عن طريق الفلسفات والقوانين التي تتعلق بمختلف شؤون حياتنا. وكلها أخلاق نسبية متعلقة بظروفها، ويمكن إجراء التعديلات عليها، أو دخول التحديث فيها بما يناسب كل زمان. بل قد تختلف بعض السلوكيات في زمان واحد مع اختلاف الثقافات بين الشعوب. فما يجده شعب ما من سلوكيات مناسبة لتماسكه وتقاربه واستمراره في حياة سعيدة، قد لا يجده شعب آخر كذلك، ويجدونه مستهجناً. وأقرب مثال على ذلك أكل بعض الحيوانات التي يستسيغها شعب ما. وفي نفس الوقت يرفضها شعب آخر لأنهم ينظرون إلى ذلك الحيوان بدرجة من القداسة قد يجعلونه رباً لهم!

هناك أكثر من ثقافة كانت تتقبل العبودية، بما فيها الثقافة الإسلامية. فقد كانت سائدة ومتداولة ومدعومة من قبل النصوص الدينية أيضاً. وكل من يطرح فكرة أن الإسلام عالج العبودية بالتدريج حتى قضى عليها تماماً فهو واهم أو مُرَقِّع. ولا دليل على ادعائه، بل الدليل على خلافه. كيف لا ونصوص القرآن والسنة تميز الناس إلى أحرار وعبيد. وسيرة المسلمين جيلاً بعد جيل على التملك واستخدام البشر كعبيد. لا بل يمارسون الجنس مع عدد لا حصر له من قبل شخص واحد تحت عنوان ملك اليمين، وتؤخذ عن طريق الشراء. وأسواق النخاسة كانت مزدحمة ويرتادها كبار وقادة المسلمين. والأنكى من ذلك فإن الكتب الفقهية إلى يومنا هذا مليئة بالمسائل الشرعية التي تعطي مختلف الأحكام حول العبيد وشرائهم واستخدامهم وغير ذلك من الممارسات.

وكانت الفتوحات الإسلامية التي تغزو مختلف البلدان تقتل رجالهم وتسبي نساءهم وتنهب أموالهم، ثم تتركهم يعانون الجوع والحرمان والتخلف. ليحظى بعد ذلك الغزاة بمختلف المغانم من النساء والغلمان والأموال ومقدرات تلك الشعوب. وكلها تحت اسم الله. والله من كل ذلك بريء، لأنه لم يأمرهم بالظلم والعنجهية والتخلف.

ولم يتم القضاء على العبودية إلا متأخراً. إلا أنها ولفترات من الزمن كانت ثقافة سائدة، ولا يجد الكثير من الناس فيها بأساً. ولكن الشعوب الآن في الغالب تراها جريمة بشعة لا تمت إلى الإنسانية بصلة.

إذن فالأخلاق قد نشأت وتطورت مع تطور الكائنات الحية. وازدادت دقة وتعقيداً كلما زاد الوعي كما حصل للبشر. وهي ظاهرة قد سبقت الأديان، بل قد سبقت وجود البشر على وجه الأرض.

الأخلاق والتطور

ومن هنا رجَّح داروين مبدأ السعادة واللذة ونقصان الألم للتمييز بين الأفعال المقبولة أو غير المقبولة. وأن كل ما ينفع من أجل بقاء النوع في دائرة الصراع، بما في ذلك التعاون والتراحم والدعم المتبادل والإيثار وما شابه ذلك. وعلى هذا التوجه عدد من علماء البيولوجي أمثال هربرت سبنسر وغيره.

فقد ذكر داروين عن قدرة الكائنات الحية على الاستفادة من تجاربها، لاستنتاج المعايير الأخلاقية التي تساعدها، أو أن يقوم الانتقاء الطبيعي بترجيحها لها. وخصوصاً لدى الحيوانات الأكثر تعقيداً، وصولاً إلى الإنسان.

فإنه يقول: (الكائن الحي الأخلاقي، هو الذي يكون قادراً على تقليب الفكر، حول تصرفاته الماضية ودوافعها وعلى الاستحسان للبعض منها، وعدم الاستحسان للأخرى. والواقع أن الإنسان هو الكائن الوحيد، الذي يستحق بالتأكيد هذا التوصيف، وهو الأعظم في جميع الفوارق الموجودة بينه وبين الحيوانات الأقل في المستوى). نشأة الإنسان ج 3 ص 224.

وقال: (الحيوانات الاجتماعية تكون مدفوعة بشكل جزئي، عن طريق رغبة في مساعدة الأعضاء التابعين لجماعتهم، بطريقة عامة، ولكن بشكل أكثر شيوعاً، لأن تقوم بتأدية تصرفات محددة بعينها. والإنسان يكون مدفوعاً عن طريق نفس الرغبة العامة، لمساعدة رفاقه) نفس المصدر ص225.

ثم يقول: (وعلى أساس أن السعادة جزء جوهري، من الصالح العام، ومبدأ السعادة الكبرى، يصلح بشكل غير مباشر، على أساس أنه معيار آمن تقريباً، للصواب والخطأ. وبما أن قدرات الترزن تتقدم، والتجربة يتم اكتسابها، فإن التأثير الأكثر بعداً، لمسالك معينة من التصرف، على الطابع الخاص بالفرد، وعلى الصالح العام، يتم استيعابه، وبعد ذلك، فإن الفضائل الخاصة باحترام الذات، تأتي في نطاق المجال الخاص بالرأي العام، ويتم تلقي المديح ومضاداته من اللوم) نفس المصدر ص 226.

وأختم آراء داروين هنا بقوله: (الطبيعة الأخلاقية للإنسان قد بلغت مستواها الحالي جزئياً، من خلال قدراته الترزنية، وبالتالي في تكوين رأي عام عادل، ولكن بشكل خاص، نتيجة لأن نزعاته قد أصبحت أكثر حساسية، وعريضة الانتشار، من خلال تأثيرات السلوك، والقدوة، والإرشاد، والتفكر، وليس غير قابل للاحتمال، أنه بعد الممارسة الطويلة، أن يكون من الممكن للميول الفاضلة، أن يتم توارثها) نفس المصدر ص 227.

وإنما ذكرت كلماته بهذا التفصيل، لأنها ليست فلسفات خاصة، وإنما آراء مبتنية على التجربة والتتبع والمقارنة، وفهم الآليات التطورية التي حافظت على الأنواع من خلال انتقاء ليس فقط الصفات البيولوجية والطفرات الوراثية التي تعطي الكائنات الحية القدرة على الصمود، وإنما انتقاء الأسباب الأخلاقية المتوارثة من أجل تحصيل نفس النتيجة.

وكل مجموعة تسود فيما بينهم عناصر التعاون والمحبة والتضحية، فسوف يكونون الأصلح للبقاء أمام ضغط التحديات، قياساً بالمجموعات الأنانية وغير المتعاونة. وكما طوَّرت البشرية أساليب نافعة للعيش أمثال اكتشاف النار واستعمالها، فإنها طورت من منظومتها الأخلاقية بما يُسهم في المنفعة والبقاء.

وكل الأديان على مختلف منظوماتها وتعاليمها، إنما أخذت من الأخلاق السائدة، وعالجت طرق التعامل بها، مع أتباعها وفقاً لتلك المبادئ. فعندما تجد أي دين يوصي بالعدل والتعاون ورفض الظلم والصفات الذميمة. فهل جاء بشيء جديد مبتكر لا يعلمه الناس قبل ذلك؟ الجواب كلا بكل تأكيد، وإنما هو ترسيخ وتأكيد على القيم النافعة للبشرية بحسب الفرض.

قاعدة اللطف

لقد أشرنا سابقاً، أن من الأدلة التي استندوا إليها لإثبات قاعدة (ما من واقعة إلا ولها حكم) هي قاعدة اللطف. على اعتبار أن الإنسان يجهل ما يسعده وما فيه خيره في هذه الحياة، فيكون مقتضى اللطف أن يبين الله له ذلك، فيجب عليه حينئذ أن يبين أحكامه في مختلف المجالات وبكل تفاصيل الحياة!

ولكن قاعدة اللطف أساساً لم تثبت، ولو ثبتت فمن قال بأن مقتضى اللطف أن يبين ذلك؟ وبتعبير أصولي فإن المناقشة تكون في الكبرى والصغرى.

أما من ناحية الكبرى، فإن قاعدة اللطف قابلة للمناقشة ولا دليل عليها. وهي قاعدة ظهرت على الأرجح في القرن الثاني الهجري بين المعتزلة. ومن ثم تلقاها بعض علماء المسلمين بالقبول بما فيهم الإمامية، ورفضها الأشاعرة وبعض المعتزلة وبعض الإمامية أيضاً.

ومعنى هذه القاعدة هو أن اللطف (ما يكون المكلف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد من فعل المعصية ولم يكن له حظ في التمكين ولم يبلغ حد الإلجاء) بحسب تعريف العلامة الحلي في كتابه كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص 324. بمعنى أن الله عندما كلَّف الإنسان، فلا بد أن يقوم بما يساعده على أداء هذا التكليف، فيقربه من الطاعة ويبعده عن المعصية. على أن يكون هذا اللطف بالشكل الذي لا يصل إلى حد الإلجاء ليبقى الاختيار قائماً، وكذلك تحصل معه الطاعة ويتحقق الامتثال وإلا فإنه لا يتحقق ذلك من دون هذا اللطف. ومن هنا قسموا اللطف إلى مقرِّب ومحصِّل. ولا نريد الدخول في هذا التقسيم وغيره. فإن له مجالاً آخر من التفصيل.

ومن أبرز علماء المعتزلة الذين قالوا بوجوب اللطف هو القاضي عبد الجبار الأسد آبادي، وحاصل دليله على ذلك أن المكلف إذا كان لا يختار فعل الطاعة إلا إذا قام الله بأمر خاص، وإن لم يقم بهذا الأمر فإن المكلف يترك الطاعة ويرتكب المعصية. وهذا الأمر أو الفعل من الله هو اللطف. ومن هنا يرى وغيره من القائلين بذلك، أن اللطف حينئذ لا بد من صدوره عن الله لتتحقق الطاعة.

وبمعنى أوضح أن الله كلَّف الإنسان بالطاعة، وامتثاله يتوقف على شيء آخر من الله غير التكليف، وهو اللطف!

انظر إلى ما قاله في كتابه المغني في أبواب التوحيد والعدل (اللطف) ج13 ص116 فصل في ذكر الدلالة على وجوب اللطف وفي قبح المفسدة، وما يتصل بذلك.

ولكن توقف أداء الطاعة على شيء زائد وهو اللطف مما لا دليل عليه. ويمكن للإنسان أن يمتثل التكليف من دون إضافة اللطف أو لزومه على الله. فلا يكون عدم اللطف دفعاً للفساد كما توحي عبارته.

وأما دليل من قال بذلك من الإمامية، علماً أنهم أخذوا القاعدة من المعتزلة وقبلوها ودافعوا عنها. فالعلامة الحلي يقول: (اللطف واجب خلافاً للأشعرية والدليل على وجوبه أنه يحصل غرض المكلِّف (بالكسر) فيكون واجباً، وإلا لزم نقض الغرض). كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص 325.

وهذا الدليل مبني على ثبوت أن المكلَّف لا يطيع إلا مع اللطف. فإن لم يحصل اللطف كان هناك نقض للغرض.

ومن قال بأن نقض الغرض سيحصل عند عدم اللطف؟ فمن الممكن أن تحصل الطاعة ولا تتوقف على اللطف كما أشرنا سابقاً. فإن افتراض أن الله يعلم بعدم طاعة الإنسان إلا مع وجود اللطف، هو افتراض نُحمِّله على الله ونُلزمه به بحسب عقولنا، ولا دليل على أنه يعلم ذلك فعلاً.

وأما الأشاعرة فإنهم أساساً لا يرون الحُسْن والقُبْح العقليين، وإنما الحَسَن ما حسَّنته الشريعة، والقبيح ما قبَّحته الشريعة. فلا يرون وجوباً على الله أن يقوم بأي فعل مع التكليف بما في ذلك اللطف. فلا يجب شيء عندهم على الله عقلاً، وأن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع.

ومن هنا قال الطباطبائي محمد حسين صاحب الميزان وهو من الشيعة: (فمن عظيم الجرم أن نُحَكِّم العقلَ عليه تعالى، فنقيد إطلاق ذاته غير المتناهية، فنحده بأحكامه المأخوذة من مقام التحديد والتقييد، أو أن نقنن له، فنحكم عليه بوجوب فعل كذا، وحرمة فعل كذا. وأنه يحسن منه كذا ويقبح منه كذا على ما يراه قوم. فإن في تحكيم العقل النظري عليه تعالى حكماً بمحدوديته..). الميزان ج 8 ص 55.

وهذا الكلام هو الذي دعا الأشاعرة وبعض علماء الإمامية إلى رفض قاعدة اللطف. فليس كل الشيعة يقبلون بهذه القاعدة.

فمن أبرز من رفضها من الشيعة الإمامية المحقق الخوئي أبو القاسم في مصباح الأصول. فإنه عندما يناقش الأدلة التي استندوا إليها في حجية الإجماع المحصل، وبعد أن يذكر الوجه الأول والمستند الذي ذهب إليه الشيخ الطوسي وهو قاعدة اللطف، وأنه يجب على الله اللطف بعباده، بإرشادهم إلى ما يقربهم إليه تعالى من مناهج السعادة والصلاح. وتحذيرهم عما يبعدهم عنه تعالى من مساقط الهلكة والفساد.. إلى أن يقول في مناقشة هذا الوجه (والكلام للخوئي): (وفيه (أولاً)- عدم تمامية القاعدة في نفسها، إذ لا يجب اللطف عليه تعالى بحيث يكون تركه قبيحاً يستحيل صدوره منه سبحانه، بل كل ما يصدر منه تعالى مجرد فضل ورحمة على عباده. إلى آخر ما قال من مناقشة الصغرى) مصباح الأصول تقريرات البسهودي على بحث المحقق الخوئي ج 2 ص 138.

فلا ينبغي أخذ قاعدة اللطف أخذ المسلمات كما قد يتوهم البعض. وخصوصاً عندما يبني عليها بعض علماء الكلام والأصول دليلهم لإثبات النبوة، والإمامة، وحجية الإجماع، وغيرها من المسائل المتعلقة بأصول الدين، أو أصول الفقه.

ولو غضضنا النظر وسلمنا بالكبرى، فمن قال بصحة الصغرى، وأن مقتضى اللطف أن يبين الأحكام الشرعية في كل واقعة. مع علمنا الأكيد بأن مختلف حاجات الإنسان على مختلف الأصعدة لم يبينها الدين. ولم يقم الله بكشفها للبشر مع حاجتهم الماسة لها. كعلاج مختلف الأمراض، وبيان النظريات العلمية الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية وغيرها. واختراع الأجهزة التكنولوجية والإلكترونية التي نقلت البشرية نقلات نوعية في مختلف المجالات. والأمثلة على ذلك مما لا حصر له. فهل من المعقول أن يكون مقتضى قاعدة اللطف -لو سلمنا بها- أن يبين الله أحكام الطهارة والصلاة والصوم بتفاصيل كثيرة، ولا يجد من المصلحة أن يبين الحل لمختلف المعضلات والمشاكل التي تعصف بالمجتمعات على المستوى الصحي أو الاقتصادي أو الأمني أو غير ذلك كثير؟! فكما أنه سكت ولم يبين كل هذه الأمور المهمة. فمن الممكن أن يسكت عن غيرها مما يتعلق بالأحكام الفقهية، ولا داعي للقول بأن كل واقعة لا بد أن يكون لها حكم شرعي، وعلى علماء الدين أن يعطوا الحلول فيها!

ومما يُنقض به عند الحديث عن صغرى القاعدة -لو سلمنا تماميتها- هو ما ذكره سعد الدين التفتازاني الفقيه المتكلم (722 ه – 792 ه): (الثالث: أنه (اللطف) لو وجب لكان في كل عصر نبي، وفي كل بلد معصوم يأمر بالمعروف، ويدعو إلى الحق، وعلى وجه الأرض خليفة ينصف المظلوم وينتصف من الظالم، إلى غير ذلك من الألطاف). شرح المقاصد ج 4 ص 323.

وهو كلام غاية في الدقة والمنطق والإنصاف. والناس في مختلف الأماكن والأزمان، يعيشون ظروفاً قاسية من حروب وجوع وسلطات جائرة تستمر جاثمة على صدور المجتمعات عشرات السنين، وتعيش شعوبهم شظف العيش والاضطهاد والسجون والتعذيب بأبشع الوسائل. وكذلك يعانون مختلف الأمراض والأوبئة. ولا نجد ذلك اللطف الذي يصوره البعض أنه واجب على الله عن طريق الأنبياء أو الأولياء! مضافاً إلى ما أشرنا له سابقاً مما يضرب البشر من كوارث طبيعية كالزلازل والأعاصير والفيضانات وغيرها، من دون تدخل جهة غيبية لممارسة اللطف بالبشر والحيوانات والنباتات وغيرها.

وما تم تأسيسه فيما بعد من أجل حل هذه المعضلات، وأصبحت عند البعض من العقائد، كلها محاولات ترقيعية لا دليل عليها. بل الدليل على خلافها، ويكذبها الواقع العلمي والعملي بكل وضوح.

سنكتفي بهذا القدر الآن، والبحث لم يكتمل، ونحتاج إلى مزيد من الكلام فيما بعد. ومن الأفضل أن تبقى هذه الحلقات مفتوحة، لنستوعب أكبر مقدار ممكن من التفاصيل المتعلقة بهذا الموضوع.

أسعد الناصري


***********************


***********************

التنقل السريع